يا باغي الشر أقصر


الحمد لله ذي الفضل والإنعام، من أوجب الصيام على أمة الإسلام، وجعله أحد
أركان الدين العظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال
والإكرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام، وخير من أطاع أمر
ربه واستقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وسلم تسليماً
كثيراً، أما بعد:


يدور
الزّمانُ دورتَه، وتذهب الليالي والأيامُ سِراعاً، وها هو عامُنا يطوِي
أشهرَه تِباعاً، وها هي ذي الأمّة ترقُب ضَيفاً عزيزاً قد بدَت أعلامُه،
واقتَربت أيّامه، والتَمَعت في الأفقِ القريب أنوارُه، إنّه شهرُ رمضانَ
المبارك: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}1،
شَهر الرّحمة والمغفِرة والعِتق من النّيران، شهرُ التّوبات، وإجابة
الدّعوات، وإقالة العثَرات، شهرٌ تصفَّد فيه الشياطين، وتغلَق أبواب
الجحيم، وتفتَح أبواب الجنة، وينادِي منادٍ كلَّ ليلة: "يا باغي الخير
أقبل، ويا باغيَ الشرّ أقصر"، فأي فرصة أعظم من تلك الفرصة؟
إنها الجنة تنادي فأين المشمرون؟ يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
إنها النار مغلقة موصدة الأبواب، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
إنها مردة الشياطين مسلسلة مقيدة، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.

ولأجل كل ذلك فإن رمضان يعتبر فرصة متميزة للتوبة، فكم من تائب عاد إلى
الله في رمضان، وانظر في نفسك وإلى من حولك لتعلم وتتيقن أن رمضان فرصة
كبرى للتوبة فعلاً.

رمضان شهرٌ يفرَح به كلُّ مسلم مهما كان حاله، فيزداد المحسِن إحساناً
وإيماناً، ويستغفِر المقصِّر ويبتغي فيه من الله رحمةً ورضواناً، فهو شهرُ
خيرٍ وبرَكة وإحسانٍ على كلّ المسلمين.
شهرٌ تَبتَلّ فيه الأرواحُ بعدَ جفافِها ورُكودِها، وتأنَس فيه النفوس بعد طولِ إعراضها وإِبَاقها.
رمَضان مِلءُ السَّمع والبصر، فهو حديث المنابِر، وزينة المنائِر، وحياةُ المساجد ((من صامَه إيماناً واحتساباً غفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفِر له ما تقدَّم من ذنبه))، وفيه ليلة القَدر هي خيرٌ من ألف شَهر: ((مَن قامها إيماناً واحتِساباً غفِر له ما تقدّم من ذنبه))2.
وإن من أعظَم القُرُبات في هذا الشهر: الصوم الذي افترَضَه الله - تعالى - تحقيقاً للتقوى فقال - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فهو شهرُ تربية النّفوس وتزكِيَتها.
رَمضانُ
شهرُ القِيام والتراويح، والذِّكر والتسابِيح، شَهر البرّ والإحسان،
والعطفِ على الفقراء والمحتاجين، شهرٌ جعَله الله مصباحَ العام، وواسِطة
النِّظام، وأوسَطَ أركان الإسلام، أنزَل الله فيه كتابَه، وفتَح للتائِبين
أبوابَه، فالدّعاء فيه مَسموع، والعمَل فيه مَرفوع، والخير فيه مَجموع،
تُستَر فيه العُيوب، وتغفَر الذنوب، وتلين القلوب، وينفِّس الله عن الحزينِ
المكروب فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ -
صلى الله عليه وسلم - قال: ((ورمضانُ إلى رَمَضان مكفِّرات لما بينهنّ؛ إذا اجتنِبَت الكبائر))3، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله - عز وجل -: كلّ عمَل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنّه لي وأنا أجزِي به))4.
والمسلم
الصادق إذا نزَلَت به مواسمُ الخيرات؛ تهيَّأ لها واستعدِّ، ونشطَ لكسبها
وجدَّ، والسَّعيد من وفِّق لاغتنامها، وسلَك الطريقَ الموصِل للقَبول،
والمحرومُ من حُرِمَ خيرَها، وكَم من صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوع والعطَش،
وكم من قائمٍ حظُّه من قيامه التَّعب والسّهَر - نعوذ بالله من الحِرمان
-؛ لِذا شمَّر الخائِفون، وفاز سراةُ اللّيل، ورَبِح المدلِجون فعن أبي
هريرةَ - رضي الله عنه - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من خاف أدلَج، ومن أدلَجَ بلغ المنزِل، ألا إنَّ سلعةَ الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنة))5.
علينا
جميعاً أن نبتعد عن الشر ووسائله، وأن نحرص على الخير وطرقه، وأن نكثر من
التّوبَة والاستغفار - وبخاصة في هذا الشهر -، وأن نهجرِ الذنوب، ونردِّ
المظالِمِ، ونخلصِ العِبادَة لله وحدَه، وأن نتبع سنة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، وبعد ذلك يحق لنا أن نفرح ونستبشر خيراً: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}6.

نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا معصيته، وأن يجعلنا
مفاتيح للخير مغاليق للشر إنه سميع قريب مجيب، وصلى الله على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 سورة البقرة (185).



2 رواه البخاري (35)، ومسلم (760).



3 رواه مسلم (233).



4 رواه البخاري (5927) واللفظ له، ومسلم (1151).



5 رواه الترمذي (2450)، وله شاهد يتقوى به، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2335).



6 سورة يونس (58).


اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم