محاضرة بمناسبة يوم العلم

محاضرة بمناسبة يوم العلم

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد:

أحب
أن أبدأ تدخلي هذا بأحد المواقف الرائعة للشيخ عبد الحميد بن باديس الذي
روي من جملة ما روي عن مواقفه الخالدة أن أحد رجال الاستعمار قال ذات يوم
للإمام:إما أن تقلع عن هذه الأفكار و إلا أغلقنا المسجد الذي تنفذ فيه
سمومكم ضدنا .
فأجابه الشيخ: لن تستطيع ذلك, فأنا إن كنت في عرس علمت
المحتفلين, وإن كنت في مأتم وعظت المعزين, أو في قطار علمت المسافرين...
فأنا المعلم مرشد في جميع الميادين وخير لكم أن لا تتعرضوا لها في دينها
ولغتها.
وعندما سأله أحد المسؤولين الفرنسين عن الهدف من جولاته إلى كل
مناطق البلاد رد عليه : إننا نريد للمسلمين الجزائريين أن يبلغوا في
المعارف والفلاحة والتجارة والصناعة مستوى الفرنسيين، ولا يمكن أن يتحقق
كل ذلك حسب ابن باديس إلا بالتربية الإسلامية الصحيحة وطلب العلم والتأمل
في الكون مثلما أمرنا القرآن الكريم { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ,
وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت , وإلى الأرض كيف سطحت } وهي
دعوة للمسلم للقراءة في الكتب والتأمل في الإنسان والطبيعة و الكون
والمجتمع بهدف اكتشاف مختلف القوانين العالمية ثم الاستفادة منها.
من
أجل هذه المواقف ومثلها كثير في حياة ابن باديس لم يخطئ الذين اختاروا يوم
وفاة الشيخ بن باديس للاحتفال بيوم العلم الوطني، فهو رجل ليس ككل الرجال
، إنه وبفضله بعثت أمة الجزائر بعد أن ظن كل من عاش تلكم المرحلة أنها أمة
قد ماتت واضمحلت وتلاشت وراء ألف حجاب . فمن كان يصدق أن الجزائر لا يمكن
أن تكون فرنسية ، ومن كان يؤمن أن الجزائر يمكن أن تعود عربية مسلمة بعد
أن فعلت فيها الآلة الاستعمارية أفعالها . وأكثر من ذلك من كان يصدق أن
الجزائر التي أنهكها الإستعمار وأفقدها جميع قدراتها قد حطم بواقيها الجهل
والخرافة والعادات البالية التي أصبحت دين الجزائريين وعقيدتهم ...
من ومن كان يصدق أن رجلا ما قد يأتي ويبعث في هذا الحطام المتلاشي الحياة ..
الحقيقة
إذا وجد من كان يصدق بذلك فالأكيد أنهم كانوا قلة قليلة . وعلى غير العادة
ولد هذا الرجل العظيم ذات يوم من أيام الشتاء سنة 1889ونشأ في أسرة عريقة
معروفة بالعلم و الجاه واليسار, فكان من أجداده الأولين (المعز ابن باديس)
مؤسس الدولة الصنهاجية الأولى ومن أسلافه المتأخرين (المكي بن باديس) الذي
تولى منصب القضاء بقسنطينة . ووالده (محمد المصطفى بن مكي بن باديس) صاحب
مكانة مرموقة و شهرة واسعة, جعلته موضع التقدير والاحترام بقسنطينة, وأمه
كريمة من كرام عائلة ابن عبد الجليل (ابن جلول) تدعى زهيرة بنت علي الأكحل.
وبعد أن تلقى علومه الأولى في مسقط رأسه بعد أن تعهد له والده بقضاء جميع حاجاته قائلا له (
يا عبد الحميد أنا أكفيك أمر الدنيا أنفق عليك أقوم بكل أمورك ما طلبت
شيئا إلا لبيت طلبك كلمح البصر فاكفني أمر الآخرة وكن الولد الصالح الذي
ألقى به وجه الله .)) و لما التاسعة عشرة من عمره التحق ابن باديس بجامع
الزيتونة بتونس فتحصل على شهادة العالمية بعد أربع سنوات من الدراسة .وفي
عام 1912عاد عبد الحميد باديس من تونس إلى وطنه, ليبدأ جهاده في سبيل نشر
العلم و اللغة و الدين , وفي الجامع الكبير بقسنطينة, بدأ يلقي دروسه,
ولكنه قطع عمله في العام نفسه الذي بدأ فيه, وسافر إلى الحجاز لأداء الحج,
و هناك التقى بأستاذه : الشيخ حمدان الونيسي, و تعرف على الأستاذ: محمد
البشير الإبراهيمي و نشأت بينهما صداقة, و تلاقت أفكارهما في وجوب إنشاء
حركة إصلاحية بالجزائر, ورسما لها منهاجا بحكمة ومهارة .
وعند رجوعه ,
عرج على مصر, فالتقي ببعض عملائها من أمثال مفتى الديار المصرية الشيخ
محمد بخيت المطيعى و شيخ علماء الإسكندرية , أبي الفضل الجيزاوي, فأجازه
كل منهما.ولما وصل الجزائر بدأت رحلته مع نشر العلم في بلد كان الجهل قد
خيم عليه وأطبق
ومن أجل التذكير فقط أردت أن أحدثكم قليلا عن هذا
الرجل الذي يصدق فيه قوله تعالى : ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا
الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )) ,أحدثكم
عن بعض أعماله التي لا يمكن حصرها ولا يمكن عدها ومنها:
1- تأسيس جمعية العلماء المسلمين:تأسست
جمعية العلماء المسلمين في عام 1931م كان الهدف من تأسيسها هو جمع شمل
علماء الأمة بهدف تنسيق الجهود ومن أهم الشخصيات المؤسسة للجمعية رفيقه
الشيخ الإبراهيمي الذي أصبح رئيسا للجمعية بعد وفاة ابن باديس والطيب
العقبي ممثلها في العاصمة بالإضافة إلي العربي التبسي الذي استشهد أثناء
الثورة ومبارك الميلي المعروف بكتابته تاريخ الجزائر في القديم و الحديث {
و رسالة في الشرك ومظاهره }
2- إنشاء الكشاف الإسلامية الجزائرية:
كان
أول من أوحي بفكرة إنشاء الكشافة الإسلامية الجزائرية للشهيد محمد بوراس
في عام 1933م وكان الهدف منها تربية النشء علي حب الوطن و الأخلاق العالية
وقد تربي أغلب الشهداء و المجاهدين في الكشافة الإسلامية الجزائرية ومنهم
العربي بن المهيدى و ديدوش مراد ...
3- التعليم وإنشاء المدارس الحرة:
بعد
إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ركز جهوده علي إنشاء المدارس
الحرة بفضل أمواله وتبرعات الشعب فكانت هذه المدارس تعلم الأطفال و الكبار
واللغة والدين والتاريخ التي هي مقومات الشخصية الوطنية , بإضافة إلي
الحساب والجغرافيا .وقد اهتم ابن باديس بتعليم البنات داعيا إلي نزع حجاب
لجهل عنهن ولتحقيق ذلك إعفائهن من دفع رسوم التعليم عكس الذكور , وهي
أموال تدفع للمساهمة ولو بقدر ضئيل في تمويل المدارس الحرة .
4- الصحافة:
شرع
الشيخ ابن باديس في الكتابة في صحيفة النجاح منذ 1919م بهدف نشر أفكاره
لثم أنشاء عدة صحف كوسيلة لنشر أفكاره و توعية الشعب الجزائري وكشف
ألاعيب الاستعمار و أذنابه ...وأول هذه الصحف { النقد} التي ظهرت في عام
1925م لكن الاستعمار أوقعها بعد أن اصدر منها 18 عدد وكان شعارها { الحق
فوق كل أحد و الوطن قبل كل شئ }
ثم جريدة { الشهاب } التي أنشأها في
عام 1929م وكتب ابن باديس في جرائد و صحف جمعة العلماء المسلمين كالبصائر
و الشريعة .. بل كان ينشر مقلاته مترجمة بالغة الفرنسية في جريدة { الدفاع
} الصادرة عن العلماء الفرنسية بهدف إيصال أفكاره الإصلاحية و الوطنية بكل
حرية.
5- الخطابة:
كان
ابن باديس خطيبا مفهوما فقال عنه احد الصحافيين الفرنسيين بأنه { قد ملك
مقاليد الكلام , وبصوته الناري يستفسر الجماهير ... و أن نبرات صوته
لتنتزع منك انتزاعا تجتث من صدرك ما أنت مقتنع به من رأى وتجعل منك عبده
و ملك يمينه
وكانا بن باديس يخطب في المساجد و المؤتمرات و لتجمعات مثلما كان يلقي المحضرات في النوادي .

6- النوادي:أنشأ
ابن باديس و إخوانه العلماء الكثير من النوادي التي كان المثقفون و
الأدباء يلتقون فيها ويتبادلون الأفكار حول الأمة وكانت تلقي فيها
المحضرات ومن أهم النوادي نادي الترقي في العاصمة .
وكان وراء إنشاء
نوادي كرة القدم , وفرق مسرحية وموسيقية , والهدف منها ترقية الشعب ونشر
الأفكار الوطنية والإصلاحية وإخراج الشعب من الانحطاط و التخلف .

وفي الأخير وجب التذكير بأهم الأهداف التي كان ابن باديس يسعى إلى تحقيقها من خلال كل هذه الأعمال ومنها
1- الحفاظ على الشخصية الوطنية ومقوماتها
: وذلك بتعليم مبادئ الدين الإسلامي و اللغة العربية التي كانت عرضة
للتهديد الإستعماري الفرنسي لأنها تقف كحجرة عثرة امام محاولات الاستعمار
في تحويل الشعب الجزائري إلي شعب فرنسي . وقد كا ابن باديس يقول : (( إن
هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا ولا
تستطيع أن تكون فرنسا ولو أرادت بل هي بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها و
في أخلاقها , وفي عنصرها وفي دينها , لا تريد أن تندمج , ولها وطن محدود
معين هو وطن الجزائر بحدوده المعروفة))ولهذا جعل شعار جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين هو " الإسلام ديننا, العربية لغتنا , الجزائر وطننا "

2- محاربة الشعوذة و الخرافات: حارب ابن باديس الطريقة
الفاسدة و الشعوذة بكل ما أوتي من قوة . وكان يقول عن الطريقة الفاسدة
بأنها مبينة { علي الغلو في الشيخ و التحيز لإتباع الشيخ وخدمة الشيخ و
أولاد الشيخ إلى ما هناك من استغلال وإذلال وإعانة للأهل الاستغلال
الإذلال والاستغلال ومن تجميد العقول إماتة للهمم وغير ذلك من تلك الشرور
}
3- الحفاظ علي وحدة الأمة والوطن : حتى يبقي الفرنسي
سيطرته علي الجزائر كان يطبق المبدأ الاستعماري المعروف: { فرق تسود }فلم
يكن أمام ابن باديس إلا العمل من اجل إطفاء نار الفتنة بين أفراد أبناء
الشعب الواحد فكان يقول :{ إن أبناء يعرب و أبناء مزيغ قد جمع بينهم
الإسلام منذ الصغر عشر قرنا ثم بدأت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة
والرخاء وتألف بينهم في العسر واليسر, وتوحدهم في السراء والضراء حتى كونت
منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما أمة الجزائر أبوها الإسلام , وقد كتب
أبناء يعرب و أبناء مازيغ آيات اتحادهم علي صفحات هذه القرون بما أرقوا من
دمائهم في ميدان الشرف لإعلاء كلمة الله , و ما أسالوا من محاربهم في
مجالس الدرس لخدمة العلم ...فأي قوة بعد هذا يقول عاقل تستطيع أن تفرقهم
لولا الظنون و الكاذب و الأماني الخادع, يعجبا لم يفتقروا وهم أقوياء فكيف
يفترقون وغيرهم القوى ؟ كلا والله بل لا تزيد كل محاولة لتفريق بينهما إلا
شدة في إتحادهم وقوة لرابطتهم }
هذه هي الأهداف التي وضعها ابن باديس
والتي كان يراها ضرورية لبناء الإنسان الذي سيقوم ببناء الجزائر بعد
الاستقلال بعد أن يحررها من الاستعمار .

ظل الأستاذ الإمام عبد
الحميد بن باديس يواصل جهاده في جميع الميادين. من أجل العلم و الوطن و
العروبة و الإسلام بالرغم من نحالة جسمه , بإيمان و عزم، عندما اندلعت
الحرب العلمية الثانية عام 1939م طلبت السلطات الاستعمارية من الشيخ عبد
الحميد بن باديس إصدار بيان مؤيد لفرنسا فرفض أن يتخذ موقفا من صراع لا
ناقة فيه ولا جمل الشعوب المستعمرة وكيف يلبي وهو يقول : { لو طلبت مني
فرنسا قول لإله إلا الله لما قلتها }
وبسبب موقفه ذلك وضع تحت
الإقامة الجبرية بمنزله في قسنطينة حتى نعي الشعب الجزائري , مساء يوم
الثلاثاء, 8 ربيع الأول سنة 1359هـ (16 أفريل 1940م) الذي اتخذته الجزائر
يوم العلم بعد الاستقلال وقد قال البعض انه قد قتل مسموما من طرف
الاستعمار.
وقد شيعت جنازة الشيخ في موكب عظيم حضرته مختلف الطبقات و
الهيئات التي عدت بعشرات آلاف , جاؤوا من جميع أطراف الوطن. وقام بتأبينه,
قبل مواراته التراب, رفيقاه في الجهاد العلمي: الشيخ مبارك الميلى و
الشهيد الشيخ العربي التبسي, ثم الدكتور بن جلول. وقد دفن جثمانه في روضة
أسرته بحي الشهداء بقسنطينة, رضي الله عنه في الخالدين.
رحمك
الله يا ابن باديس, عشت و مت مجاهدا من أجل الجزائر و العروبة و الإسلام,
فربطت الجزائر العربية المسلمة ذكرى وفاتك بيوم العلم الذي تحتفل به كل
سنة تقديرا وتخليدا لجهادك وعلمك من أجل تكريم الإنسان و تحرير الأوطان

» يوم العلم
» محاضرة بعنوان احبته فسجنته وسيم يوسف
» هديتى لكن بمناسبة العيد
» رسائل sms بمناسبة عيد الفطر
» هديتي بمناسبة حلول شهر رمضان.......

صفحة 1 من اصل 1